السقمُ أَهْلكَ روحَها ، والعلةُ اتَّخَذَتْ جسدِها مسكنًا ، ظهرُها مُعْوَجٌّ كما قوس الرماةِ ، و رُكبتيها هَشَّةٌ كفُتات ِالخُبزِ ، تُدعى هذه المرأةُ ، السيدة صابرة ، وقد كانت كاسمِها تمامًا ، شاكرةً ، عابدةً ، تهفو بصبرها إلى حبِ الله عَزَّ وجلّ (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) ، فوالله ما علمتُ حبًا أعظم من هذا الحبُ .
لكن رُغم أننا أُمِرنا بالصبرِ ، لا بُدَّ للإنسانِ أن يضعفَ في بضعِ محطاتِ حياتهِ ، فلا تكُن لديهِ تِلكَ المقدرةُ لِحملِ آلامهُ والكتمِ عليها ، كالشيخوخةِ مثًلا ، وقد وصَلتْ صابرة إلى تلك المحطةُ بعد سنين عجافٍ ، و شهور جفافٍ على جنَانها .
كانتْ صابرةُ أمًا لابنين ، أكبرهم يُدعى غيث ، وكم أحبتْ نداءُ الجميع لها بأمِ غيث ، فقد كانَ أقرب الابنين إلى قلبِها ، قُرّةُ عَيْنها ، و فِلْذَةُ كَبِدِهِا ، أما الآخَر فيُدعى رعد ، وقد كان مُتهجمًا ، عابسًا ، غضوبًا ، فلكُلّ امْرِئ من اسمِه نصيب .
في يومٍ من الأيامِ ، حين طغى غيهبُ الليلِ على المكانِ و لوثَ نقاوة الأرضِ بظلامِه الدامسِ ، ومع بدء انسحاب أشعةُ الشمسِ الخجولةِ ، و إِنْفِلاج نجومُ الليلِ الضحوكةِ ، نظرتْ صابرةُ إلى الزهرِ الذي تُسقيه برذاذِ الماء ، وقد كانتْ عادةٌ ليليةٌ لديها ، استمالتها وردةٌ حمراء اللونِ كانتْ ، جرداء الشكلِ باتتْ ، تيبسَتْ الزهرةُ اليافعةُ ، وأَضْحَتْ صفراء قاحلةٌ ، و كأنها بِذلِكَ تتضامنُ مع صابرة ، العجوزُ المريضةُ ، تبسمتْ صابرة بمرارةٍ ، وبدأتْ ذكرى ريعانِ شبابِها تمرُ أمامها كمرِ السحابِ ، لكن أَوْقف مرورها ألمٌ فَتَكَ برأسِها ، جعلَها تُوقِعُ مرشةَ المياةِ ، وتهبِطُ في القاعِ راجيةً العونِ من الأرضِ ، أَمْسكتْ كفاها الندية برأسها ، و الألم ينهُشُ روحها و ينقضُ عليها .
في تلِكَ الليلةُ علِمَتْ صابرةُ أن ما مرتْ بهِ لم يكن موجة صداع كالعادةِ فأسرعتْ إلى أحد الأطباء دون عِلمَ ابنيها ، لتُصعق بمعرفةِ أن لديها مرض الصداع النصفي ، الذي كان مُلازمً ا لها مُنذ الطفولةِ لكنها لم تُدرك ذلكَ ، والأسوأ من ذا كلهُ أن هذا المرضُ لم يكتفي بخرقِ سكينتها و زرعِ السقمَ لوحدهِ ؛ فقد خلفَ وراءهُ مرضًا في القلبِ و الأوعيةِ الدمويةِ ، أي أنها قد باتتْ في أَشدّ المراحلِ خطورة .
أَخْفَتْ الأمُ صابرةُ مرضَها عن الجميعِ ، كانتْ تضحكُ وتتبسمُ أمامهم ، لِتُعاني من آلامِ المرضِ عند اختفائهِم ، لم تكن تُريدُ أن تُصبحَ عائقٌ أمامَ مسيرةِ غيث الدراسيةِ ، فقد باتَ في آخر الطريقِ و لم يتبقَ لهُ الكثير .
مرَتْ شهورٌ عدةٌ ، وصابرة على حالهِا ذاتهُ ، تفاقمَ المرضُ و تزايدَ عليها ، لكِنَها تحاملتْ على نفسِها و أَسْكَتَتْ أنينُها ، حتى جاءتْ الليلةُ المشؤمةُ ، حين قُلعِت الزهرةُ القاحلةُ ،و أُخرِجت روحُ السيدةِ صابرة ، كانتْ هذهِ نهايةُ قصةُ ألمٍ لم يعلمْ بِها أحد ، قصةٌ بدأتْ بصابرة وإِنْتهتْ بِها ، تضحيةُ أمٌ مُبجلة ، أمٌ فضلتْ عدم عِلمَ ابنها بمرضها ، أمٌ أَخْفَت ألمَها لِتُفرحَ ابنِها ، الأم ماتتْ والدمعُ عالقًا بين جفنِها .
😭😭😭😭😭
ردحذف